بقلم: خلف أحمد الحبتور
يتحدّث السياسيون اللبنانيون على الدوام عن
«الاعتدال السنّي» عند وصفهم للطائفة السنية التي تشكّل 28 في المئة من سكّان
البلاد، في إشارة إلى مواقفها السياسية وسلوكها المجتمعي ومقاربتها المسؤولة
للدفاع عن النفس، مع العلم بأن أهل السنة معروفون تاريخياً أنهم أصل الأمّة وهم
بناة الدولة وحُماتها من 1400 عام. تُعتبَر صفة «الاعتدال»، في أي مكان آخر في
العالم، إطراء للفريق الذي يُنعَت بها. أما في لبنان فهي بمثابة اتّهام ملطَّف
للسنّة بأنهم مذعنون ويسهل اقتيادهم، وبأنهم غير مستعدّين للدفاع عن حقوقهم. هل
يعني الاعتدال عدم التحرّك يداً واحدة وبقوّة
في وجه التشهير والاعتداءات من
الخصوم؟يصرّ أحد السياسيين اللبنانيين على أن الجماعات الدينية كافة في لبنان معتدلة. لكنه يحلم لسوء الحظ. فلو كانت الحال على هذا النحو، لكان لبنان من أكثر الأماكن سلاماً واستقراراً وأماناً على وجه الأرض. لكن على العكس تماماً، ينهش الناس بعضهم بعضاً، وكل واحد يعمل بحسب مقولة «إذا سلمت أنا وناقتي ما علي من رفاقتي». ثمة قول عربي مأثور على السنّة اللبنانيين أن يقتدوا به «إن لم تكن ذئبا على الأرض أجردا كثير الأذى بالت عليك الثعالبُ». بعبارة أخرى، إذا أعطيت انطباعاً بأنك ضعيف أو خائف، فسوف يكون لك الآخرون بالمرصاد لاستغلالك.
تعود علاقتي بلبنان إلى مطلع السبعينيات قبل أن يغرق في العنف المذهبي والاحتلال الخارجي. لقد سُحِرت بالجمال الطبيعي لهذا الجزء من المشرق العربي الذي يعانق البحر المتوسط، وكذلك بشعبه الودود والمضياف الذي لا يُميّز بين سنّي وشيعي ومسيحي ودرزي. لا أحمل الجنسية اللبنانية، لكن تربطني عواطف قوية بذلك البلد وأستثمر فيه مالياً، ولذلك يؤلمني كثيراً أن أرى قوّة أجنبية هي إمتداد للمنظومة الأمنية الإيرانية تضع يدها عليه من خلال عميلها «حزب الله» الذي يعمل جاهداً للقضاء على الاعتدال في لبنان وجرّ البلاد إلى الصراعات.
لا أذكر أبداً أن السنّة في لبنان اتّخذوا يوماً موقفاً قوياً ممّن يدّعون الوطنية في حين أن هؤلاء يسعون إلى تدمير لبنان خدمة لمصالح أسيادهم الأيديولوجيين. ربما نجح غاندي في طرد البريطانيين من الهند عبر الطلب من أتباعه بأن يعملوا بالمثل القائل «إذا ضربك أحدهم على خدّك الأيمن، أدر له الخد الأيسر». لكن هذه المقولة لا تنجح في منطقتنا من العالم، وهذا ما يشهد عليه الفلسطينيون والأقليات في مختلف أنحاء المنطقة. لو اقتدى ياسر عرفات بغاندي أو نلسون مانديلا، لتعرّض الفلسطينيون للتطهير العرقي وطُرِدوا من القدس والضفة الغربية منذ عقود. عندما كان رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في الحكم، كان للسنّة ممثّل قوي ونافذ لا يتحدّث فقط باسمهم إنما أيضاً باسم لبنان وجميع اللبنانيين ودفاعاً عنهم، لكن بعد اغتياله بطريقة وحشية، لم يستطع أيّ من خلفائه أن يملأ مكانه.
أدركُ أن اللبنانيين يرزحون تحت وطأة نظام مذهبي شديد الانقسام، وأكنّ الاحترام للسلطات والجيش وأقدّر الجهود التي بذلوها في السابق لصون البلاد في وجه عوائق شبه مستحيلة. لكن في الآونة الأخيرة، يشتكي السنّة من انحياز الجيش لمصلحة بعض الأفرقاء ويقولون إن عناصر من «حزب الله» شاركوا في القتال إلى جانبه في أحداث منطقة عبرا في صيدا، الأمر الذي ينكره الجيش. وقد تواجه الجيش مع أشخاص وصفهم بـ«المقاتلين السنّة» على خلفية تنظيم آلاف السنة تظاهرات احتجاجاً على هجوم الجيش على مقرّ أحد رجال الدين السنّة الذي يوجّه انتقادات لاذعة إلى «حزب الله» وحليفه، نظام الأسد في سوريا.
تشير تقارير الشهود العيان في صيدا إلى أن «حزب الله» شارك في القتال إلى جانب الجيش اللبناني. إذا صحّت هذه المعلومات، فسوف يشعر السنّة بأنهم غير محميّين من جيشهم الوطني، الأمر الذي سيؤدّي إلى تفاقم شعورهم بعدم الأمان فيما يفرض «حزب الله» إرادته على الساحة السياسية، ويُخنَق الصوت السني الخافت أكثر فأكثر. فضلاً عن ذلك، من شأن أي زواج سرّي بين الجيش و«حزب الله» أن يؤجّج الاحتدام المذهبي، ويزيد من حدّة الاستقطاب في بلد تسوده الانقسامات على خلفية الأحداث في سوريا حيث تهدّد الحرب الأهلية المندلعة هناك بالعبور إلى الطرف الآخر من الحدود وابتلاع البلد المجاور.
على السنّة ألا يغيب عن بالهم أنهم يشكّلون واحدة من أكبر الطوائف في لبنان، ويستحقّون بالتالي أن يعامَلوا باحترام من قبل مؤسسات الدولة والقوى الأمنية والجيش الذي أقسم على الدفاع عن جميع اللبنانيين، لأنهم شركاء متساوون في الوطن. يجب أن يكفّوا عن دفن رؤوسهم في الرمال، وإلا سيصحون ذات يوم ليكتشفوا أنهم تحوّلوا مواطنين من الدرجة الثانية مثل السنّة في العراق وإيران وسوريا. ويجب ألا يخضعوا للترهيب من أصحاب العمائم الذين يكنّون الولاء لملالي طهران. عليهم أن يرفعوا الصوت عالياً ضد المحاولات الهادفة إلى الدوس على حقوقهم أو الإساءة إلى كرامتهم وشرفهم، وأن يردّوا عليها بحزم. وينبغي على السنّة أيضاً أن يطالبوا الهيئات الحكومية بالتعامل بحزم وإنصاف مع جميع الأشخاص والأفرقاء من دون أي تمييز أو تحيّز، ومن دون تفضيل طائفة أو مذهب على آخر.
ربما يعود زوّار بيروت وقد وقعوا تحت سحر هذه العاصمة التي تقدّم صورة برّاقة ومفعمة بالطاقة في الظاهر، في حين تعتمل التشنّجات المذهبية في الخفاء ويمكن أن تطفو إلى الواجهة في أية لحظة. على السلطات أن تبذل قصارى جهدها لوأد نار الفتنة قبل أن تتحوّل لهيباً حارقاً يقضي على آمال الجيل الطالع.
عندما يشعر ثلث سكّان لبنان تقريباً بأن قوى
الأمر الواقع لا تبالي بآرائهم ورفاههم، تزيد احتمالات تفجّر الأوضاع، وفي هذه
الحالة ستكون العواقب وخيمة على الجميع.
لا يسعني سوى أن أناشد السنّة في لبنان لأن يوحدوا صفوفهم ويهجروا الخلافات في ما بينهم ويرفعوا رأسهم عالياً في معركة مفتوحة لن يصمد فيها سوى الأقوى. ليس كلامي هذا تحريضاً للمسلمين السنّة على حمل السلاح أو ارتكاب أعمال عنف في الشارع. على العكس، رسالتي واضحة وبسيطة: تحلّوا بالشجاعة الكافية للدفاع عن مبادئكم، وبالمثابرة لتحقيق مطالبكم. ارفضوا اللامساواة، وأثبتوا من جديد أنكم قوّة لا يُستهان بها. كثيرون في العالم العربي يقفون إلى جانبكم ويدعمونكم، وأنا منهم لكن إذا لم تصونوا كرامتكم وشرفكم بأنفسكم، فلا تتوقّعوا من الآخرين أن يفعلوا ذلك مكانكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق